مع التطور التكنولوجي والعلمي، تختلف التحديات التي يواجهها العالم عن تلك التي كانت يكافحها قبل عقد من الزمن أو حتى أقل، وفي حين تشغل مسائل مثل الذكاء الاصطناعي والأوبئة وغيرها من القضايا الجديدة انتباه الكثيرين، فإن هناك أزمة كبرى تتأثر بها تدريجياً معظم دول العالم، والتي تتلخص بأننا بعد فترة ليست بعيدة لن يكون لدينا ما يكفي من الشباب خصوصاً والبشر عموماً لتسيير اقتصاداتنا، ومواصلة النمو الاقتصادي المستمر تقريباً بلا انقطاع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
من شأن هذه الأزمة التأثير بشكل عميق على البنية الديمغرافية للكثير من الدول، وما يليها من مصاعب في تقديم مختلف الخدمات الاجتماعية وأشكال الدعم المختلفة، إلى جانب عرقلة الاقتصاد عن النمو والتوسع، بسبب نقص اليد العاملة اللازمة ونقص الطلب في المجالات المرتبطة بفئات عمرية معينة.
ملخص هذه الأزمة هي أن النمو السكاني يتباطأ – بل وينعكس – في العديد من دول العالم، خصوصاً الدول الأكثر حاجة للنمو السكاني، والأسباب مرتبطة بتقدم هذه الدول وما لذلك من آثار على شكل العائلة التقليدية وقرارات الأفراد فيما يتعلق بالزواج والإنجاب.
من الانفجار السكاني إلى التناقص
الانفجار السكاني، تحديد النسل، تنظيم الأسرة، وغيرها من المصطلحات كانت سائدة بشكل كبير خصوصاً في أواخر التسعينات وأوئل الألفينات، وذلك ضمن الجهود الحثيثة التي كانت تتبعها عدة حكومات ومنظمات دولية للتصدي لأزمة ما بات يعرف اليوم بعدة أسماء أبرزها الانفجار السكاني.
تتلخص مشكلة الانفجار السكاني في نمو عدد السكان بشكل غير محدود يهدد بإشعال أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، بسبب محدودية الموارد الطبيعية والبنى التحتية والخدمات الاجتماعية المتوفرة للسكان، وكانت بعض الدول تواجه هذه التحديات بشكل يفوق أقرانها، خصوصاً الصين والهند اللتان تحتويان اليوم مجتمعتين أكثر من ثلث سكان الكوكب.
من أقسى الإجراءات التي اتخذت لمكافحة النمو السكاني المفرط سياسة الطفل الواحد سيئة السمعة في الصين، والتي منعت العديد من الصينيين أو حدت من قدرتهم على إنجاب أكثر من طفل واحد ابتداءً من عام 1979، أما في الهند، فاعتمدت الحكومات المتتالية أساليب أقل تطرفاً تمثلت في برامج تنظيم الأسرة وتوفير أدوات تحديد النسل وحملات التوعية المكثفة لخفض عدد المواليد الجدد.
لكن يبدو اليوم أن الكثير من الدول ستكون مضطرة لقلب أولوياتها، فالصين التي كانت الأشد قسوة في مكافحة أزمة الانفجار السكاني تعاني اليوم من مشكلات ديموغرافية أخرى مثل اختلال التوازن بين الجنسين وارتفاع معدل الشيخوخة، بعد أن أدت سياسة الطفل الواحد إلى تقلص قاعدة الشباب وزيادة نسبة كبار السن، إضافة إلى زيادة عدد المواليد الذكور مقارنة بالإناث بسبب إجهاض الكثير من الأزواج للحمل حين يكون الجنين أنثى.
وتشير التوقعات إلى أن العديد من الدول ستشهد انخفاضاً كبيراً في عدد سكانها في المستقبل القريب. في أوروبا، من المتوقع أن تنخفض أعداد السكان بشكل ملحوظ في دول مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا بسبب انخفاض معدلات الولادة وارتفاع معدلات الشيخوخة، وتشير التقديرات إلى أن إيطاليا وألمانيا ستشهدان انخفاضاً في القوى العاملة وعدد السكان بحلول منتصف القرن الحالي، ما سيؤثر على الاقتصاد والخدمات الاجتماعية بشكل كبير.
كما انخفض معدل الخصوبة في كوريا الجنوبية إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، ويبلغ حالياً أقل من مولود واحد لكل امرأة (0.81)، علماً أن معدل الخصوبة المطلوب للحفاظ على عدد السكان بدون زيادة أو نقصان – أو ما يعرف بمعدل الاستبدال – هو 2.1 طفل للمرأة الواحدة.
كوريا الجنوبية ليست البلد الوحيد الذي انخفض معدل الخصوبة فيه إلى ما دون معدل الاستبدال، إذ تشير أحدث أرقام البنك الدولي إلى أن معدل الخصوبة عالمياً يبلغ 2.3 فقط، أي أقل من نصف معدل الخصوبة عام 1963 – ذروة ما يعرف بطفرة المواليد – والذي بلغ حينها 5.3 وأخذ بالانخفاض بشكل مستمر منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا.
في الصين يبلغ هذا المعدل 1.2 فقط، ويعود نسبياً لتحسن التعليم ومشاركة النساء في سوق العمل، إضافة لكون سياسة المولود الواحد جعلت الكثير من الأزواج الصينيين مسؤولين عن كافة أفراد أسرتهم المسنين لوحدهم في ظل عدم وجود أخوة أو أخوات.
وفي عام 2023، حققت الصين رسمياً لأول مرة نمواً سلبياً في عدد السكان، حيث انخفض عدد سكانها بنسبة 0.15% (حوالي 2.08 مليون نسمة)، الأمر الذي سلط الضوء على تحديات خطيرة بانتظار الاقتصاد الصيني إن كان يريد مواصلة النمو المتسارع الذي يشهده لعدة عقود، إذ ستواجه الصين تراجعاً في القوى العاملة وزيادة في نسبة كبار السن، ما سيؤدي إلى زيادة الطلب على خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية بالتزامن مع تباطؤ أو تراجع النمو الاقتصادي.
في الدول الأوروبية الوضع ليس أفضل حالاً، فجميع الدول الأوروبية، باستثناء جورجيا، تقع حالياً تحت معدل الاستبدال، حيث يبلغ معدل الخصوبة في إسبانيا وإيطاليا 1.2 وفي ألمانيا وبلجيكا 1.5، وفي فرنسا يبلغ هذا المعدل 1.8.
على الجانب الآخر، تعد أفريقيا القارة الوحيدة التي يتوقع أن تشهد نمواً سكانياً كبيراً خلال العقود القادمة. العديد من دول أفريقيا لديها معدلات خصوبة عالية، ومع تحسن الظروف الصحية وزيادة متوسط عمر الإنسان فيها، من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان القارة بحلول منتصف القرن الحالي قبل أن يبدأ معدل الخصوبة بالهبوط إسوة بمختلف المجتمعات التي شهدت تحديثاً في بناها الاقتصادية والاجتماعية.
هل تلاشى حلم التقاعد؟
يمثل تناقص السكان تحدياً كبيراً بالنسبة لصناديق التقاعد خصوصاً، وربما يعد التأثير الأقرب زمنياً والذي بدأت أعراضه تظهر بوضوح من الآن، والسبب يكمن في كيفية عمل هذه الصناديق.
تقوم فكرة التقاعد في مختلف دول العالم على توفير الموارد المالية اللازمة لدفع الرواتب التقاعدية من رسوم أو ضرائب يدفعها الأشخاص الذين ما زالوا في سوق العمل، والذين يحصلون في المقابل على رواتب تقاعدية بعد سن معينة يدفعها الآخرون الذين ما زالوا في سوق العمل.
ويشكل انخفاض عدد السكان وارتفاع معدلات الشيخوخة تحدياً كبيراً لصناديق التقاعد في العديد من الدول الغربية، والمعادلة التي يقوم عليها أسلوب عملها، حيث تعتمد أنظمة التقاعد بشكل كبير على نسبة عدد العاملين إلى المتقاعدين. مع انخفاض عدد المواليد وزيادة العمر المتوقع للإنسان، تتزايد أعداد المتقاعدين وعدد السنوات التي يحصلون خلالها على الدعم، بينما تتناقص أعداد العاملين الحاضرين في سوق العمل، ما يؤدي إلى أعباء كبيرة على صناديق التقاعد، ويهدد استدامتها وقدرتها على تقديم الدعم المالي لكبار السن.
في فرنسا أدى تباطؤ النمو السكاني، وزيادة عدد المسنين مقارنة بالشباب إلى زيادة الضغوط المالية على صندوق التقاعد الفرنسي، والذي كان من المتوقع أن يدخل في حالة عجز في الميزانية بحلول عام 2030 بسبب ارتفاع شيخوخة السكان – أو متوسط سن السكان – وانخفاض نسبة الوظائف في سوق العمل لعدد المتقاعدين.
هذا الأمر دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لطرح مشروع مثير للجدل في بداية عام 2023 يرفع سن التقاعد تدريجياً من 62 عاماً إلى 64 عاماً، الأمر الذي واجه معارضة واسعة من قبل الاتحادات النقابية وحتى البرلمان الذي عطل المشروع، إلى أن استخدم ماكرون في حالة نادرة صلاحياته الدستورية لإقرار المشروع، حيث يتيح الدستور الفرنسي للرئيس إقرار قانون واحد في العام بدون العودة للبرلمان.
إلى جانب رفع سن التقاعد، يتم اتباع إجراءات أخرى، منها تشجيع المواطنين الأكبر سناً على البقاء في سوق العمل، عبر تقديم حوافز للشركات لتوظيفهم وتوفير بيئة عمل مناسبة لهم، إلى جانب محاولات إعادة هيكلة أنظمة التقاعد عبر الانتقال من الأنظمة الحكومية التقليدية إلى الأنظمة الخاصة أو المختلطة، وتوفير خيارات ميسرة للادخار والاستثمار، بما يساعد الأفراد على التخطيط بشكل منفرد لتقاعدهم.
حرب الهجرة المقبلة
يبدو استقبال المزيد من المهاجرين اليوم من الحلول السريعة والمنطقية لهذه الأزمة، وبالفعل كانت الهجرة مسؤولة عن كامل النمو السكاني في 14 دولة وإقليم بين عامي 2000 و2022، بحسب أرقام الأمم المتحدة ودراسة أجراها مركز بيو للأبحاث الأمريكي، قارن فيها بين النمو السكاني مع وبدون الهجرة، وأظهرت هذه المقارنة أن النمو السكاني الذي بلغ في ألمانيا بلغ حوالي 1.7 مليون بين عامي 2000 و2022، كان سيتحوّل بدون الهجرة إلى تناقص في عدد السكان بحوالي خمسة ملايين نسمة، أي ما يقارب 6% من التعداد السكاني الحالي.
الأمر نفسه بالنسبة لإيطاليا التي نما عدد سكانها بفضل الهجرة بحوالي 2.7 مليون بدلاً من الانخفاض بحوالي 1.6 مليون، وجمهورية التشيك التي نما عدد سكانها بحوالي 270 ألف بدلاً من الانخفاض بحوالي 24 ألف.
بالمقابل فقد واصلت الكثير من الدول انخفاض عدد سكانها رغم استقبال للمهاجرين، مثل رومانيا التي انخفض عدد سكانها بحوالي 2.5 مليون بدلاً من 3.06 مليون بدون احتساب الهجرة، ومثلها بأرقام متفاوتة العديد من الدول الأقل جاذبية للمهاجرين لأسباب اقتصادية أو ثقافية، مثل اليونان وهنغاريا واليابان وجورجيا.
ولكن كما تشير العديد من الدراسات والبيانات، فإن الهجرة تشكل حلاً آنياً فقط، ولا يمكن استخدامها لفترة محدودة بهدف زيادة معدلات الخصوبة في البلاد ثم التخلي عنها، وذلك لكون معدلات خصوبة المهاجرين القادمين من الدول ذات معدلات الخصوبة المرتفعة تبدأ بالانخفاض ابتداءً من الجيل الثاني أو نصف الثاني، أو الجيل 1.5، أي الجيل الذي لم يولد في بلد المهجر ولكنه نشأ فيها.
تشير دراسة منشورة في دورية البيولوجيا الاقتصادية والإنسانية، تعتمد على تحليل معدلات الخصوبة للأجيال الثانية ونصف الثانية من المهاجرين في النرويج، إلى أنه على الرغم من أن معدلات خصوبة الجيل الأول تظل عادة قريبة من معدلات الخصوبة في البلد الأصلي، إلا أنه ابتداءً من الجيل الثاني، فإن الزيادة في معدل الخصوبة لا تزيد عن 0.14 مقابل كل 1 زيادة في البلد الأصلي.
مع اتجاه معدلات الخصوبة في معظم دول العالم إلى التراجع، وفي ظل عدم قدرة المهاجرين على رفع معدلات الخصوبة فيها بشكل طويل الأمد، سنشهد على الأغلب منافسة أكبر في المستقبل على استقبال المهاجرين من الدول ذات معدلات الخصوبة الأعلى، وخصوصاً القارة الأفريقية ذات أعلى معدلات الخصوبة حتى يومنا هذا.
ينعكس ذلك بشكل عام على تخفيض دول المهجر التقليدية – في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية – لشروطها الخاصة بالهجرة والجنسية والدعم الاجتماعي، حيث قامت ألمانيا مثلاً بتخفيض عدد سنوات الإقامة اللازمة لطلب الحصول على جنسيتها من ثماني سنوات إلى خمس سنوات، كما أنشأت تأشيرة عمل تسمح لحاملها بالانتقال إليها والبحث عن عمل لمدة عام كامل.
فيما ستواصل ألمانيا وغيرها من الدول الثرية اتخاذ إجراءات مماثلة في العقود المقبلة، ستنضم إليها كذلك الاقتصادات الصاعدة التي ستعاني بدورها من انخفاض عدد المواليد مع تحسّن التعليم ومشاركة النساء بشكل أوسع في سوق العمل، والتي تؤدي عادة لانخفاض معدلات الخصوبة.
أياً كانت الحلول التي ستفرض نفسها مع مرور الزمن، فإننا سنشهد في العقود المقبلة تغيرات جذرية سواءً في مراكز الثقل الاقتصادي، خصوصاً بالنسبة للدول التي ما زالت معدلات الخصوبة فيها مرتفعة مثل الهند والعديد من الدول الأفريقية، أو في كيفية ترتيب الأولويات الاقتصادية مع تزايد نسبة المسنين والمواطنين الذي يحتاجون إلى رعاية بدون القدرة على المشاركة في سوق العمل، والأهم في كيفية التعامل مع قضايا الهجرة التي تلعب دوراً كبيراً اليوم في الاستقطاب السياسي في مختلف دول العالم.