ما بدأ كمنظمة تابعة للأمم المتحدة ووحدة إنقاذ مالية للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، سرعان ما تحول لأبرز لاعب على الساحة المالية الدولية، سواءً بوصفه الملاك المنقذ الذي يتدخل لانتشال الدول من حافة الهاوية المالية، كما يرى البعض، أو بوصفه الشيطان الذي يدفع بهذه الدول إلى الهاوية أسرع ما يمكن، كما يرى البعض الآخر.
في حين تكتنف مهام وهيكلية صندوق النقد الدولي، ومدى إيجابية وسلبية دوره، الكثير من الغموض بالنسبة للعامة، فإنه بالتأكيد صاحب التأثير الأكبر على مسار الأحداث على مسرح الاقتصاد العالمي، ولا يمكن المرور على أي أزمة مالية أو اقتصادية في العالم بدون ذكر اسمه وتأثيره على مسار الأحداث.
ما هو صندوق النقد الدولي؟ ومن يملكه؟ وما الذي يفعله بالضبط؟ ولماذا يتعرّض لانتقادات متزايدة في عصرنا الحالي؟
صندوق النقد الدولي والحرب العالمية الثانية
كان صندوق النقد الدولي جزءاً من مختلف مخرجات اتفاقية بريتون وودز الموقّعة سنة 1944، والتي تعدّ دستور النظام النقدي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، فهذه الاتفاقية هي المسؤول الأول عن هيمنة الدولار الأمريكي على نظام النقد الدولي المستمرة إلى يومنا هذا، وتظهر رمزية هذه الاتفاقية في كون مقر صندوق النقد الدولي يقع في العاصمة الأمريكية واشنطن على بعد دقائق من البيت الأبيض، وليس نيويورك كما هي الحال بالنسبة لمختلف وكالات الأمم المتحدة، والتي يعد صندوق النقد الدولي واحداً منها.
كانت الغاية من تأسيس صندوق النقد الدولي الاتفاق على نظام اقتصادي عالمي جديد يتسم بالاستقرار، خصوصاً بعد الأخطاء التي تخللت العقدين اللذين فصلا بين الحربين العالميتين، وساهمت برأي كثيرين في اندلاع الحرب الثانية، حيث جرى تبني الكثير من القيود التجاري وسُجلت معدلات تضخم هائلة، إلى جانب الطفرات في سعر صرف العملات مع ندرة الذهب.
الهدف من تأسيس الصندوق النقد الدولي كان مساعدة الدول التي تعثرت اقتصادياً، مع فرض نوع من الرقابة على سياساتها المالية لضمان تصرّفها بمسؤولية بالأموال التي تحصل عليها، وكانت عضوية صندوق النقد الدولي شرطاً إلزامياً للانضمام إلى البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية (حالياً البنك الدولي)، والذي أنشئ قبل اتفاقية بريتون وودز لمساعدة الدول الأوربية على التعافي من تبعات الحرب العالمية الثانية.
بدأ صندوق النقد الدولي بعضوية 44 دولة، أو ما يعرف بالأعضاء الأصليين، على رأسها دول الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي لم ينضم لصندوق النقد الدولي حتى انهياره، إضافة إلى عدد من دول العالم الثالث، وكانت مصر والعراق البلدين العربيين الوحيدين المشاركتين في تأسيس الصندوق. أخذ عدد الأعضاء يزيد تدريجياً مع استقلال المزيد من الدول، ليبلغ اليوم 190 عضواً، آخرها أندورا التي انضمت في أكتوبر 2020.
مؤسسة مساهمة
على عكس وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، فإن حقوق أعضاء صندوق النقد الدولي غير متساوية، على الأقل من الناحية الكمية. حيث يتم احتساب حقوق التصويت لكل بلد وفقاً لمساهمتها في احتياطيات صندوق النقد الدولي، بعملة افتراضية تعرف باسم حقوق السحب الخاصة، وفقاً للمعادلة التالية:
حقوق التصويت = حقوق التصويت الأساسية + (حقوق السحب الخاصة ÷ 100,000)
وتبلغ قيمة حق السحب الخاص الواحد حوالي 1.35 دولار في الوقت الحالي، ويتم احتسابها بشكل يومي على أساس قيمة الدولار الأمريكي مقابل أربع عملات رئيسية هي اليوان الصيني واليورو والين الياباني والجنيه الاسترليني.
تهيمن الولايات المتحدة على الحصة الأكبر من حقوق السحب الخاصة، وتبلغ حوالي 83 مليار أو 17.43%، وتسيطر بفضلها على حوالي 16.50% من الأصوات، تليها اليابان بنسبة 6.47% من حقوق السحب الخاصة و6.14% من الأصوات، ثم الصين بنسبة 6.40% من حقوق السحب الخاصة و6.08% من الأصوات، وبشكل عام تسيطر تسع دول على أكثر من نصف الأصوات، من ضمنها أربعة دول أوروبية.
الترتيب | العضو | حقوق السحب الخاصة (مليون) | نسبة حقوق السحب الخاصة | نسبة الأصوات |
---|---|---|---|---|
1 | الولايات المتحدة | 82,994.2 | 17.43 | 16.50 |
2 | اليابان | 30,820.5 | 6.47 | 6.14 |
3 | الصين | 30,482.9 | 6.40 | 6.08 |
4 | ألمانيا | 26,634.4 | 5.59 | 5.31 |
5 | فرنسا | 20,155.1 | 4.23 | 4.03 |
6 | المملكة المتحدة | 20,155.1 | 4.23 | 4.03 |
7 | إيطاليا | 15,070 | 3.16 | 3.02 |
8 | الهند | 13,144.4 | 2.75 | 2.63 |
9 | روسيا | 12,903.7 | 2.71 | 2.59 |
10 | البرازيل | 11,042 | 2.32 | 2.22 |
(بحسب أرقام صندوق النقد الدولي في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2024)
ماذا يفعل صندوق النقد الدولي؟
يقدّم صندوق النقد الدولي ثلاث مهام أساسية: البيانات والاستشارات والقروض.
- البيانات
يعد تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الذي يصدره صندوق النقد الدولي بشكل دوري من أهم التقارير الاقتصادية الدورية، وذلك بسبب سعة البيانات التي يوفرها والتي يجمعها لتحضير التقرير، إضافة لكونه يقدم نظرة عامة للاقتصاد العالمي ككل، ويعدّ مرجعاً مهمّاً للمستثمرين وصناع السياسات والحكومات على حد سواء.
- الاستشارات
عادة ما تعمل مع صندوق النقد الدولي ألمع العقول الاقتصادية في العالم، ويقدّم بمساعدتهم المشورات التقنية لمختلف جوانب القطاعات الاقتصادية والمالية في الدول الأعضاء، وقد تتم تقديم هذه المشورات لمرة واحدة، أو تكون على شكل إشراف أو استشارات دائمة.
- القروض
وهي أهم ما يقوم به صندوق النقد الدولي، ومصدر نفوذه وتأثيره الكبيرين عالمياً، إذ توجد 93 دولة حول العالم لديها قروض لدى صندوق النقد الدولي، أقلها حوالي 2.3 مليون دولار لدولة جزيرة فانواتو، وأكبرها قروض الأرجنتين التي بلغت حوالي 42 مليار دولار، وتليها فوراً مصر بقروض بلغت حوالي 13.3 مليار دولار، ويبلغ إجمالي قروض صندوق النقد الدولي في الشهر العاشر من عام 2024 حوالي 111.6 مليار حق سحب خاص، أي حوالي 151 مليار دولار أمريكي.
انتقادات صندوق النقد الدولي
- الهيمنة الأمريكية
لعل أفضل مرجع يسلط الضوء على سلبيات عمل صندوق النقد الدولي هو كتاب “صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية” للصحفي الألماني إرنست وولف، والذي يرى أن إنشاء صندوق النقد الدولي لم تكن غايته بالفعل استقرار الاقتصاد العالمي، بقدر ما كانت تكريس هيمنة الولايات المتحدة بعد خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية، بدون أضرار تذكر على بنيتها التحتية، إلى جانب كونها أكبر دائن في العالم والمسؤولة عن نصف الإنتاج الصناعي في العالم.
وبحسب وولف، تم التوافق على خطة رئيس الوفد الأمريكي هاري دكستر وايت، أو “خطة وايت”، والتي تنص على “استحداث نظام نقدي عالمي جديد، لم تكن له أي قرينة في تاريخ النقود أبداً، نظام نقدي يتمحور حول الدولار الأمريكي أولاً وأخيراً”، إضافة لذلك، فإن أي قرار للصندوق يجب أن يحظى بموافقة 85% من حقوق التصويت، وبحكم امتلاك الولايات المتحدة لحصة تبلغ 17%، فإنها قادرة على تعطيل أي قرار.
ويضيف وولف أن الهدف من هذا النظام كان توزيع أعباء قروض إعادة الإعمار على أطراف عدّة، وضمان قدرة الولايات المتحدة على التحكم بالتدفقات المالية الدولية. إضافة إلى ذلك، فإن الغاية من هذه الخطة كانت ضمان تزوّد الولايات المتحدة بما تحتاجه من مواد خام لصناعاتها، وفتح أسواق العالم أمام فائض إنتاج قطاعها الصناعي متسارع النمو في تلك الفترة.
- الأعباء بدلاً من يد العون
يرى وولف أن قروض صندوق النقد الدّولي، وما يرافقها من شروط خاصة بالسياسات الحكومية المختلفة، لا تؤدي لإنقاذ هذه الدول من أزماتها الاقتصادية، بل لسقوطها أكثر في فخ المديونية المرتفعة التي تنهك الميزانيات العامة في هذه الدول.
وبحسب كتاب وولف فإن سياسة الصندوق التي تفرض على الدول المدينة اتباع برامج تقشفية واسعة تترك نتائج وخيمة خصوصاً على العمال والفقراء بسبب التقشف، وذلك مرده لكون هذه الحكومات ستضطر لمحاباة اقتصاد السوق والسعي لجذب الاستثمارات، ما يعني نقل العبء الضريبي من كاهل الشركات والمستثمرين إلى ذوي الدخل المحدود، فسياسة الصندوق “جعلت في مستطاع حفنة من الأغنياء، يعجز المرء عن وصف رخائهم، أن تراكم ثرواتها بلا انقطاع، حتى في أزمنة الأزمات”.
ويقدّم وولف في فصول كتابه عدة أمثلة على الآثار السلبية لتدخلات صندوق النقد الدولي، من بينها يوغسلافيا التي كانت تواجه أزمة ديون ارتفعت من حوالي ملياري دولار عام 1970 إلى 18 مليار دولار عام 1980 لعدة أسباب، على رأسها رفع الولايات المتحدة لمعدلات الفائدة بشكل كبير أدى لارتفاع تكلفة الاقتراض الدولي.
تدخل صندوق النقد الدولي برفقة “رابطة أصدقاء يوغسلافيا” بقيادة الولايات المتحدة، لتقديم قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 600 مليون دولار، أكبر قرض لبلد واحد من الصندوق حتى ذلك الحين، ولكنه جاء مرفقاً بشروط تفرض على الحكومة اليوغسلافية تسديد قروضها للحكومات الأجنبية بقيمة 5.5 مليار دولار، وديون للقطاع الخاص بقيمة 10.9 مليار دولار، إلى جانب إجبار المشاريع اليوغسلافية على تولي تسديد الديون الخارجية بغض النظر عن ظروفها، ما أدّى في كثير من الحالات لعدم دفع هذه المشاريع لرواتب موظفيها.
هذه الإجراءات أدت إلى انهيار المصانع اليوغسلافية بالجملة، وتفاقم البطالة، وانخفاض الأجور بحوالي 40% حتى عام 1985، وتحوّلت يوغسلافيا لأكثر الدول الأوروبية مديونية، وسابع أكثر بلد مديونية في العالم، وتبع ذلك قرض آخر بقيمة 300 مليون دولار أمريكي لمساعدتها على الاستمرار في تسديد ديونها، ولكنه لم يتبع بالتدقيق اللازم، ما أدى لانخفاض معدل النمو الاقتصادي إلى 2.4% عام 1987، واستمرار تهريب رأس المال إلى الخارج، وارتفاع معدلات البطالة من جديد، إلى جانب الشح في توفر المواد الغذائية في بلد خصصت 45 من عائداته المالية لخدمة الدّين.
تستمر بعد ذلك تدخلات الصندوق النقد الدولي التي تضع ضعوطاً إضافية على الصناعات الوطنية، وتجبر البلاد على قبول الاستثمارات الأجنبية، إلى جانب عدم التوازن في تحمل أعباء هذه الأزمات المتتالية بين أقاليم البلاد المختلفة، ما أدى في النهاية إلى الحرب الأهلية التي انتهت بانهيار يوغسلافيا وعودتها لتصبح سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وصربيا.
يقدّم كتاب إرنست وولف الكثير من الأمثلة التي توضّح كيفية تدخل الصندوق المتكرر لصالح الدائنين بدلاً من المدينين، واستغلال ضعف الدول الاقتصادي لفتح أبوابها للاستثمارات الغربية وتسهيل عملها، إلى جانب دعمه لحكومات مثيرة للجدل، مثل حكومة الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا.
منافس الصندوق الجديد
في محاولة لكسر هيمنة صندوق النقد الدولي، ومن وراءه هيمنة الولايات المتحدة، على سوق الإقراض الدولي، أسست مجموعة دول البريكس مؤسسة مقابلة تحت اسم “بنك التنمية الجديد” برأس مال بلغ 100 مليار دولار عام 2013، وباشر عمله عام 2015.
أعضاء بنك التنمية الجديد الحاليين هم دول البريكس الخمسة، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والتي يشكل مجموع اقتصاداتها حوالي 27% من الاقتصاد العالمي، إلى جانب كل من مصر والإمارات وبنغلادش.
يقوم بنك التنمية الجديد بتمويل حوالي 82 مشروعاً حالياً آخرها معظمها تصب في تطوير البنى التحتية في الدول الأعضاء، مثل مشروع لتطوير شبكة المياه والصرف الصحي في سانت بطرسبرغ في روسيا، بقيمة 320 مليون دولار، ومشروعين لتطوير طرقات المناطق الريفية في ولايتي بيهار وغوجارات الهنديتين بقيمة 638 مليون و500 مليون دولار على التوالي.
ومن أبرز الاختلافات عن صندوق النقد الدولي أن أعضاء بنك التنمية الجديد يملكون حصصاً متساوية بين الأعضاء المؤسسين، كما إن عضويته مفتوحة لأي بلد عضو في الأمم المتحدة. وعلى عكس صندوق النقد الدولي الذي غالباً ما تتولى رئاسته شخصيات أمريكية وأوروبية، انطلق بنك التنمية الجديد برئاسة المصرفي الهندي كوندابور فامان كاماث، وخلفه عام 2020 نائب وزير الاقتصاد البرازيلي السابق ماركوس برادو ترويخو، والذي خلفته سنة 2023 رئيسة البنك الحالية والرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف.