inflation

هل تشعرون بشكل دائم أن دخلكم لم يتراجع ومع ذلك أصبحتم أقل قدرة على تلبية احتياجاتكم المختلفة؟ لستم الوحيدين الذين يشعرون بذلك، وهو ليس مجرّد شعور، إنما ذلك بسبب ظاهرة اقتصادية لا يسلم منها أي اقتصاد في العالم، تعرف باسم التضخم أو تضخم الأسعار، وهي السبب الرئيسي لتناقص القدرة الشرائية للمستهلكين في مختلف دول العالم، وتراجع قيمة العملات المختلفة إذا ما قيست للسلع التي يمكن شراؤها بها بدلاً من قياس قيمتها بالنسبة للعملات الأخرى.

ما هو سبب هذه الظاهرة؟ وهل يمكنكم أن تحموا أنفسكم منها؟ وكيف تكافح الحكومات لحماية اقتصاداتها من خروج التضخم عن السيطرة؟

ما هو التضخم؟

التضخم ببساطة هو ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات على مدار فترات زمنية طويلة نسبياً، ما يؤدي لتراجع القوة الشرائية، أو كمية المنتجات والخدمات التي يمكن الحصول عليها مقابل ذات المبالغ. بمعنى آخر هو تراجع القيمة الفعلية للعملة في السوق المحلية.

ويستخدم تعبير التضخم حين يكون ارتفاع الأسعار شاملاً وليس مقتصراً على سلع أو خدمات بحد ذاتها بسبب متغيرات محددة.

أياً كانت العوامل التي تقف وراء التضخم، فإنه يحصل دائماً بسبب اختلال التوازن بين العرض والطلب، ما يجعل الشركات ومزودي الخدمات يزيدون من أسعارهم استجابة للطلب المرتفع أو لتراجع المعروض.

قياس التضخم

يتم قياس التضخم عبر مراقبة أسعار مجموعة من السلع والخدمات الأساسية بشكل دوري، ومقارنة هذه الأسعار بنظيرتها من العام السابق، وغالباً ما يتم التعبير عن ذلك في مؤشرات مختلفة، أهمها مؤشر أسعار المستهلك (CPI)، والذي يقيس ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلك النهائي، مقابل مؤشر أسعار المنتجين (PPI) والذي يقيس أسعار المبيع من قبل المنتجين المباشرين للسلع والخدمات، ومؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE) الذي يقيس كمية إنفاق المستهلكين على مختلف فئات السلع والخدمات.

ويتم قياس هذه المؤشرات على أساس سلة من المنتجات والخدمات، تختلف من بلد لآخر بحسب أولويات المستهلكين والإنتاج المحلي. في السعودية مثلاً يتم حساب التضخم عبر مؤشر الرقم القياسي لأسعار المستهلك على أساس عدة فئات تمنح كل منها وزناً مختلفاً في المؤشر بحسب أهميتها وهي كما يلي:

أما في مصر فيتم أخذ عوامل مختلفة في عين الاعتبار عند حساب التضخم، فالأغذية والمشروبات تملك تأثيراً أكبر على الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، مقابل تأثير أقل بالنسبة لأسعار الاتصالات، وتقوم مصر باحتساب الرقم القياسي لأسعار المستهلكين كما يلي:

الفئةالوزن (من 100)
الطعام والمشروبات32.7
المشروبات الكحولية والدخان4.4
الملابس والأحذية4.4
الإسكان والمياه والكهرباء والغاز19.5
الأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية3.9
الرعاية الصحية6.0
النقل والمواصلات6.7
الاتصالات السلكية واللاسكلية2.8
الثقافة والترفيه2.2
التعليم5.5
المطاعم والفنادق5.0
السلع والخدمات المتنوعة4.4

ويتم بشكل عام قياس التضخم كل ربع (ثلاثة أشهر) وقياس التغير على أساس سنوي. فمثلاً حين يقال أن التضخم بلغ في السعودية 1.5% في الربع الثاني من 2024، فذلك يعني أن الرقم القياسي لأسعار المستهلك يزيد عن نظيره في الربع الثاني من 2023 بنسبة 1.5%، ويعرف هذا التغير باسم معدل التضخم السنوي، مقابل معدّل التضخم الربعي الذي يقيس الفارق بين الربع الثاني والربع الأول من عام 2024 في هذا المثال.

أسباب التضخم

تتنوع أسباب التضخم من عوامل خارجية مرتبطة بالأزمات التي تؤثر على سلاسل التوريد أو حجم الإنتاج في الدول التي تستورد منها البلد منتجاتها، وداخلية متعلقة بزيادة السيولة النقدية وارتفاع الطلب بفضل النمو الاقتصادي وارتفاع الدخل، أو باختلال الميزان التجاري لناحية زيادة الاستيراد مقابل التصدير، وبالتالي انخفاض المعروض النقدي من العملات الاجنبية مقابل العملة المحلية وانخفاض قيمتها.

قدم الاقتصادي النيوزلندي بيل فيليبس نموذجاً بات يعرف باسم منحنى فيليبس (Phillips Curve) يشرح العلاقة بين التضخم وسوق العمل خصوصاً، ويشير هذا النموذج إلى أنه عندما تنخفض معدلات البطالة في بلدٍ ما، فإن ذلك يؤدي لارتفاع الأجور كي تتمكن الشركات من الحصول على المواهب القليلة المتوفرة في الأسواق، ما يؤدي بدوره لارتفاع الأسعار سواءً بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة لزيادة الأجور، أو لارتفاع المعروض النقدي بسبب توافر المزيد من النقود في أيدي القوى العاملة.

استخدم الاقتصادي الأمريكي روبرت جيمس غوردن أعمال فيليبس ليقدم نموذج التضخم الثلاثي الذي يقسم التضخم إلى ثلاثة أنواع وفقاً لمسبباته:

  • تضخم الطلب والسحب (Demand-pull inflation)

وهو التضخم الناتج عن زيادة المعروض المالي النقدي والائتماني (أي توافر القروض بسهولة)، والتالي زيادة الطلب على السلع والخدمات أسرع من توسع القدرة الاستيعابية لسلاسل التوريد، ما يؤدي لارتفاع الأسعار.

من أمثلة هذا النوع من التضخم ما حصل في الولايات المتحدة أثناء جائحة كورونا، حيث أدّت المساعدات التي قدمتها الحكومة للأمريكيين لارتفاع المدخرات والموارد النقدية في أيدي الأمريكيين، ما أدى لارتفاع الطلب بفضل الفائض النقدي لدى الكثير من الأمريكيين، كما أدى لارتفاع أسعار الكثير من الأسهم ومنتجات التداول.

  • تضخم دفع التكلفة (Cost-push inflation)

يحدث هذا التضخم بسبب ارتفاع أسعار منتجات محددة لا بديل لها، خصوصاً المواد الخام التي تدخل في صناعات أخرى أو تؤثر على الأسعار بشكل عام.

من أوضح أمثلة هذا النوع ارتفاع الأسعار الذي يرافق زيادة سعر الوقود لما له من أثر على تكلفة نقل مختلف المنتجات على المستوى المحلي، أو ارتفاع أسعار النفط على المستوى العالمي وما يتبعها من ارتفاع تكاليف النقل البحري خصوصاً بين الدول.

  • التضخم المدمج (Built-in Inflation)

وهو التضخم الناتج عن التوقعات باستمرار التضخم، بمعنى آخر هو حلقة مفرغة من التضخم الناتج عن التضخم والتوقعات باستمرار ارتفاع الأسعار والتكاليف، ما يؤدي لزيادة المنتجين ومزودي الخدمات لأسعارهم من جهة لحماية أنفسهم من الارتفاع المحتمل في تكاليف الإنتاج، ومطالبة القوى العاملة بأجور أعلى تتناسب مع التضخم المتوقع من جهة.

ويحصل هذا النوع من التضخم بعد انتهاء مسببات التضخم الأساسي، وذلك كانعكاس للنظرة التشاؤمية بحركة الأسعار في المستقبل.

درجات التضخم

التضخم بحد ذاته ظاهرة اقتصادية طبيعية مرافقة للنمو الاقتصادي وما يرافقه من زيادة في الأجور والطلب على مختلف المنتجات والسلع، ولكن حين يبدأ المصطلح بالظهور في نشرات الأخبار فذلك غالباً ما يكون سببه إما نسب التضخم المرتفعة، أو سرعة التضخم التي تجعله ملحوظاً من قبل المستهلكين من جهة، ومن قبل الحكومات من جهة أخرى ما يدفعها لاتخاذ إجراءات استثنائية لكبح جماحه. بشكل عام يمكن تقسيم التضخم بحسب شدته إلى ثلاث درجات أساسية:

  • التضخم الطبيعي

وهو معدّل التضخم الحتمي مع نمو الاقتصاد، وتختلف نسبة ما يعتبر تضخماً طبيعياً من بلدٍ لآخر، ولكنها تتراوح عادة ما بين %1 و3%، ولا يستدعي التضخم ضمن هذه الحدود عادة التدخل من قبل البنك المركزي أو الحكومة.

  • التضخم المرتفع

كما هي الحال بالنسبة للتضخم الطبيعي، لا توجد نسبة واضحة لما يعتبر تضخماً غير طبيعي يستدعي التدخل، ويختلف الأمر من بلد لآخر، ولكن غالباً ما يتم اعتبار التضخم غير طبيعي حين يزيد بشكل ملحوظ عن السنوات السابقة. في المملكة المتحدة مثلاً ظل التضخم دون 4% بين عامي 2015 و2022، ولكنه خرج عن مستوياته الطبيعي في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022 حين بلغ 4.2%، وواصل صعوده إلى أن بلغ 11.1% في ذات الشهر من عام 2023، قبل أن يأخذ بالانخفاض تدريجياً بفضل عدة إجراءات اتخذتها الحكومة البريطانية، ليبلغ 1.7% في شهر أيلول/سبتمبر 2024.

بيانات مكتب الإحصاءات الوطنية (ONS)

  • التضخم المفرط

يختلف التضخم المفرط عن التضخم المرتفع لناحية شدته وسرعته، إذ يحصل هذا النوع من التضخم استجابة للأحداث السياسية والمالية الكبرى، ومن أحدث أمثلته انهيار قيمة الليرة اللبنانية إثر تخلف الحكومة عن سداد ديونها واحتجاز ودائع اللبنانيين في البنوك، الأمر الذي لارتفع سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الدولار من 1500 ليرة لبنانية إلى حوالي 90,000 ليرة على مدار 6 سنوات، لتفقد الليرة اللبنانية بذلك حوالي 98.5% من قيمتها. وبحسب فيليب كاغان، مؤلف كتاب “الديناميكيات النقدية للتضخم المفرط”، يعتبر التضخم مفرطاً حين يبلغ التضخم الشهري 50% أو أكثر، وينتهي التضخم المفرط حين تنخفض مستويات التضخم دون هذه النسبة.

كيف تكافح الحكومات التضخم؟

لكل بلد إجراءات مختلفة لمكافحة التضخم، غالباً ما يتم اختيارها بناءً على الأولويات الاقتصادية والفئات الأكثر تأثراً، ولكن بشكل عام هناك أسلوبين يمكن للحكومات اتباع أحدهما أو كلاهما في الوقت نفسه:

  • التدخل المباشر

في هذه الحالة تقوم الحكومات بتحديد وفرض أسعار الصرف وبعض السلع والخدمات الأساسية لتكبح ارتفاع الأسعار، وغالباً ما يكون هذا النوع من التدخل أقل فاعلية ويؤدي لظهور سوق موازية (أو سوق سوداء) لا تلتزم بالأسعار التي تحددها الحكومة.

  • التدخل غير المباشر

تقوم الحكومات بالعمل على تخفيض المعروض النقدي عبر عدة أساليب، منها بيع سندات الخزانة لسحب المعروض النقدي من الأسواق، أو رفع أسعار الفائدة لتجميد مبالغ أكبر، إلى جانب تغيير متطلبات الاحتياطات النقدية لدى البنوك، ما يجبرها على تخفيض كمية القروض والائتمان الذي تمنحه، كما يمكن أن تقدم الحكومة الدعم لاستيراد المواد الخام والمنتجات الأساسية التي تؤثر على أسعار بقية السلع والخدمات، مثل الوقود والمواد الغذائية، كما يمكن أن تزيد البنوك المركزية من احتياطياتها من العملات الأجنبية والمعادن الثمينة لتساهم في ارتفاع قيمة العملة المحلية وبالتالي انخفاض الأسعار مقابلها.

يعد التضخم من أكثر الظواهر الاقتصادية انتشاراً وأكثرها تعقيداً في الوقت نفسه، وذلك لكثرة العوامل المؤثرة فيه والجوانب المتأثرة به، إلى جانب كونه قادر على التأثير سلبياً على المستهلكين والمنتجين على حد سواء، إلى جانب التأثير على الميزانيات الحكومية التي تضطر للخضوع لتعديلات طارئة لتتناسب مع التكاليف غير المتوقعة في حال خروج التضخم عن السيطرة، ولكن في الوقت نفسه عدم حصول التضخم أو تسجيل معدلات تضخم سلبية – أي انخفاض في الأسعار – يعد مؤشراً سلبياً أيضاً، كواحد من أعراض عجز الاقتصاد عن تحقيق نمو أو معاناته من الكساد وضعف الطلب.

تفعيل الإشعارات موافق لا، شكراً