باتت العملات الرقمية في السنتين الأخيرتين على موعد دوري مع اجتماعات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي واللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) التابعة له، والتي يتم الإعلان فيها عن أي تغييرات على معدلات الفائدة. بالنسبة لكل مستثمر في العملات الرقمية وغيرها من الأصول، من الضروري فهم معدلات الفائدة، وكيفية تأثيرها على الاقتصاد بشكل عام، وعلى حركة سوق العملات الرقمية بشكل خاص.
ما هي أسعار الفائدة؟
تقوم الحكومة الأمريكية، كما تفعل الكثير من الحكومات، بالاقتراض من الجمهور عبر ما يعرف باسم سندات الخزينة، وهي وثيقة توضح حجم السند، أي ثمنه، والفائدة السنوية المترتبة المترتبة عليه، ومدة الاستحقاق التي تمتد من سنة وحتى عشرين سنة.
الأمر نفسه ينطبق على معظم البنوك المركزية، خصوصاً في الدول الثرية، حيث يتم استخدام سعر الفائدة أداة في يد البنوك المركزية للتأثير على الأسواق بما يتوافق مع السياسات الحكومية والتحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
تعد أسعار الفائدة بشكل عام معياراً للحد الأدنى للعائد الثابت على الاستثمارات، أي إنه في ظل أمان هذه السندات مقارنة بغيرها من الاستثمارات، وضمان دفعها في مواعيدها، فإن أي استثمار ينطوي على مخاطر ويقدم عائداً يقل عن مستوى سعر الفائدة النافذ تعد غير مغرية للمستثمرين.
بهذا الشكل تستخدم الحكومات سعر الفائدة للتحكم بتدفق السيولة في الأسواق أو بسعر صرف العملة الوطنية، حيث إن أسعار الفائدة المرتفعة تحرم الأسواق والأصول الاستثمارية المختلفة من السيولة، سواءً القادمة من قبل المستثمرين، أو من قبل البنوك التي قد تفضّل في حالات الفائدة المرتفعة استثمار ودائع عملائها في السندات الآمنة بدلاً من الإقراض.
وفي حين تتبع معظم البنوك المركزية خطى الاحتياطي الفيدرالي في كيفية تحريك أسعار الفائدة لديها، فإن أسعار الفائدة الأمريكية تتبع عادة عدة عوامل وبيانات، ومنها:
- مؤشر أسعار المستهلكين (CPI): وهو مؤشر يصدر شكل شهري للسلع والخدمات الأساسية في الولايات المتحدة، ويتم قياسه بناءً على الأسعار التي يدفعها المستهلكين النهائيين، ويعتبر معياراً للتضخم، وعادة ما يؤدي ارتفاعه – سواءً على أساس شهري أو سنوي – إلى رفع أسعار الفائدة وغيرها من الإجراءات الموجهة لمكافحة التضخم.
- مؤشر أسعار المنتجين (PPI): وهو مؤشر يصدر بالتوازي مع مؤشر أسعار المستهلكين، ويتم قياسه بناءً على الأسعار التي يحصل عليها المنتجين المحليين في الولايات المتحدة، أي إنه يقيس تقريباً أسعار الجملة، ويعتبر معياراً لقياس التضخم كذلك، ولكن بدرجة أقل من مؤشر أسعار المستهلكين.
- نمو الاقتصاد المحلي: سواءً أتم قياس ذلك بقياس حجم النشاط الاقتصادي أو بالناتج المحلي الإجمالي، يتم عادة خفض سعر الفائدة لمجابهة تراجع النمو أو الانكماش الاقتصادي وذلك لتوفير المزيد من السيولة في الأسواق، وبالتالي تمويل المزيد من الاستثمارات.
كيف تؤثر أسعار الفائدة على الأسواق؟
يتم تحريك سعر الفائدة عادةً بواحد من اتجاهين، لخدمة غايتين مختلفتين، ويتم اختيار جهة تغيير سعر الفائدة بحسب الأولويات الاقتصادية.
- رفع سعر الفائدة: يلجأ الاحتياطي الفيدرالي لرفع سعر الفائدة عندما يواجه الأمريكيون معدلات تضخم مرتفعة، فرفع سعر الفائدة يؤدي للتقليل من المعروض النقدي في الأسواق، وبالتالي انخفاض الأسعار، أو بعبارة أخرى زيادة قيمة الدولار الأمريكي سواءً مقابل العملات الأخرى أو مقابل السلع المختلفة بسبب انخفاض العرض.
- خفض سعر الفائدة: يتم خفض سعر الفائدة عندما تكون الأولوية الاقتصادية لتحفيز النمو، مثلما حصل في فترة وباء كوفيد 19، بحيث يشجع انخفاض الإيرادات المضمونة من السندات المستثمرين والبنوك على طرح السيولة النقدية في الأسواق والاستثمار في الشركات المختلفة، ما يفيد بشكل خاص الشركات المتعثرة على المدى القصير بسبب الأزمات الاقتصادية.
بالنسبة لأسواق التداول، خصوصاً الأسهم، يكون عادة لرفع سعر الفائدة تأثير سلبي، فالأسهم وغيرها من الأصول القابلة للتداول تتأثر بذات الشكل الذي تتأثر به السلع العادية، إذ تنخفض أسعارها بسبب قلة المعروض النقدي وبالتالي الطلب، وفي الوقت نفسه فإن أحجام التداول تنخفض عادة بسبب توجه المستثمرين إلى السندات ذات العائدات المضمونة ومستوى المخاطرة شبه المعدوم مقارنة بالأسهم في الكثير من القطاعات.
وعلى العكس، فإن خفض سعر الفائدة يدفع المستثمرين إلى البحث عن مصدر دخل بديل لعائدات السندات المنخفضة، ويقبلون باتخاذ بعض المخاطرة.
كيف تتأثر العملات الرقمية بسعر الفائدة؟
تؤثر قرارات الاحتياطي الفيدرالي بخصوص أسعار الفائدة بشكل كبير على أسعار العملات الرقمية، بشكل مباشر وغير مباشر، ومردّ ذلك بشكل عام إلى تصنيف العملات الرقمية ضمن فئة الأصول عالية المخاطر، بسبب تقلبها الكبير وعدم القدرة على التنبؤ بأدائها على المدى المتوسط والبعيد، وبالتالي فإنها تتأثر بتغييرات سعر الفائدة بذات اتجاه تأثر الأصول عالية المخاطر الأخرى، وبقدر أكبر عادةً كونها تعدّ من الأصول ذات المخاطر الأعلى نظراً لتقلبها الشديد الذي يصعب توقعه.
- التأثير المباشر:
تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى جعل الاستثمارات التقليدية، مثل السندات وغيرها من الأصول ذات الدخل الثابت، أكثر جاذبية للمستثمرين الباحثين عن عائدات ثابته، ما يؤدي لانخفاض الطلب على العملات الرقمية التي ينظر لها كاستثمارات أقل أماناً، إلى جانب الإقبال على بيعها من قبل المستثمرين الراغبين بنقل استثماراتهم إلى أصول أكثر أماناً.
تؤثر أسعار الفائدة المرتفعة أيضاً على السيولة التي يتم استثمارها في العملات الرقمية، إذ تصعّب على المستثمرين الحصول على التمويل اللازم للاستثمار في العملات الرقمية، وتزيد من تكلفة الاقتراض، ما يعني الحاجة لعوائد مرتفعة لتعويض الفوائد المرتفعة التي ستُدفع على هذه القروض، ويؤثر هذا الأمر بالذات على التداول بمشتقات العملات الرقمية مثل البيع على المكشوف والعقود الآجلة.
- التأثير غير المباشر:
تؤثر قرارات أسعار الفائدة عادة بشكل كبير على الاقتصاد بشكل عام، فحين يرفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة فإنه عملياً يُبطئ النمو الاقتصادي ويؤدي لارتفاع البطالة وانخفاض الدخل الفائض القابل للاستثمار، كما يؤدي لانعدام اليقين بخصوص المستقبل، ما يجعل المستثمرين أقل ميلاً للمخاطرة، وبالتالي ينخفض الطلب على العملات الرقمية.
إضافة لذلك فإن أسعار الفائدة تؤثر على قوة الدولار الأمريكي، وحين يرتفع سعر الفائدة يرتفع سعر صرف الدولار الأمريكي، ما يجعل الاستثمار في العملات الرقمية – المسعرة بالدولار الأمريكي عادةً – أكثر تكلفة بالنسبة للمستثمرين في الدول والاقتصادات غير الأمريكية.
وبعيداً عن هذه التأثيرات القابلة للقياس، تتمتع قرارات تغيير سعر الفائدة بأثر نفسي على المستثمرين عموماً، فحين ترتفع أسعار الفائدة يزيد قلقهم من التضخم والتباطؤ الاقتصادي، ما يؤدي في كثير من الحالات للتخلص من الأصول غير المستقرة أو عالية المخاطر.
هل تأثير أسعار الفائدة على العملات الرقمية حتمي؟
على الرغم من آليات الارتباط المذكورة بين أسعار الفائدة والعملات الرقمية، إلا إنه في كثير من الحالات قد لا ينعكس هذا الارتباط على أسعار العملات الرقمية بشكل طبيعي.
في حين ترتبط العملات الرقمية بالاقتصاد بشكل عام، وتتأثر بمتغيراته، هناك العديد من العوامل والأحداث الأخرى التي تؤثر على العملات الرقمية أيضاً. مثلاً قد تنخفض أسعار الفائدة في نفس الوقت الذي تنهار فيه مؤسسة كريبتو كبرى، أو يتعرض أحد بروتوكولات البلوك تشين للقرصنة، ما يجعل العوامل السلبية أكثر تأثيراً فلتغي أو تعكس أو تخفف تأثير التغيير في أسعار الفائدة.
إلى جانب ذلك، في كثير من الأحيان يكون التغير الحاصل في أسعار الفائدة متوقعاً، خصوصاً بعد الكشف عن أرقام مؤشر أسعار المستهلكين ومؤشر أسعار المنتجين، الأمر الذي يجعل السوق يتفاعل مبكراً وبشكل تدريجي، بحيث تكون أخبار تغيير أسعار الفائدة تحصيل حاصل.
إضافة إلى ذلك، فإنه من المعتاد ارتباط حركة أسعار العملات الرقمية بعوامل أخرى، مثل أسهم شركات التكنولوجيا وقوة الدولار وأداء القطاع المصرفي. مثلاً عندما انهار بنك سيليكون فالي و بنك سيلفرغيت الأمريكيان، تفاعل سوق العملات الرقمية بشكل إيجابي، رغم رفع أسعار الفائدة في نفس الفترة، ومرد ذلك لكون التعثرات في القطاع البنكي تنعكس عادة بشكل إيجابي على العملات الرقمية، التي تعد بديلاً للقطاع البنكي أو ملاذاً من تعثراته.