تعد العملات الرقمية، أو العملات المشفرة، من أبرز التطورات التي حصلت منذ بداية القرن الحالي، سواءً أكان على الصعيد التكنولوجي أو المالي، وباتت اليوم تشكل جزءاً أساسياً من الاقتصاد العالمي. غيّرت العملات الرقمية من كيفية تصوّرنا للمال والمبادلات التجارية والملكية والعديد من المفاهيم الاقتصادية الأخرى، من خلال توفيرها لمنظومة علاقات اقتصادية مغايرة لما استخدمته البشرية لقرون.
ما هي العملات الرقمية؟
العملات المشفرة، أو العملات الرقمية، (Cryptocurrencies)، هي عملات افتراضية لا يوجد تمثيل مادّي لها، مثل القطع والأوراق النقدية بالنسبة للعملات التقليدية، تستخدم تقنيات التعمية أو التشفير (Cryptography) لحماية ومصادقة المعاملات على سجل لامركزي باستخدام تكنولوجيا سلاسل الكتل أو البلوك تشين (Blockchain). على عكس العملات التقليدية التي تصدرها الحكومات والبنوك المركزية، تعمل العملات الرقمية بشكل مستقل عن أي سلطة مركزية، وتعتمد على شبكة موزعة من الحواسيب للحفاظ على نزاهتها ووظائفها.
طريقة عمل العملات الرقمية
يتم تسجيل مختلف معاملات أي عملة رقمية على سجل موزع (Distributed Ledger) يمتلك الجميع نسخة منه، وهو مكشوف وغير قابل للتغيير، وتقوم مجموعة من أعضاء الشبكة بتصديق هذه المعاملات باستخدام ما يعرف باسم خوارزميات الإجماع (Consensus Algorithms)، سواءً عبر حل معادلات رياضية معقدة تضمن استخدام طاقة حاسوبية عالية تجعل قرصنة هذه السجلات شبه مستحيلة، أو ما يعرف باسم “إثبات العمل” (Proof of Work)، أو عبر مصادقة المعاملات من قبل الأعضاء الذين يملكون كمية معينة من العملة، وبالتالي من مصلحتهم الحفاظ على نزاهة الشبكة، أو ما يعرف باسم إثبات الحصة (Proof of Stake)، كما توجد أساليب أخرى لمصادقة المعاملات وإن كانت تندرج بشكل أو بآخر ضمن هذين الأسلوبين في إطارهما العام.
بعد تصديق المعاملات تصدر كتلة جديدة، أي نسخة جديدة من السجل الموزّع وآخر المعاملات المجراة، ولهذا تسمى التكنولوجيا التي تعتمد عليها العملات الرقمية باسم “سلاسل الكتل”.
كل عملة مشفرة تعمل إما على سلسلة كتلها الخاصة بها، أو تعتمد على سلسلة كتل أخرى، ولكل محفظة أو عنوان رمزان ضروريات للتحكم بها، الأول هو المفتاح العام (Public Key)، أو العنوان (Address) أو المحفظة (Wallet)، وهو رمز متاح للعموم ويستخدم بذات طريقة استخدام عنوان البريد الإلكتروني أو رقم الهاتف، والمفتاح الخاص (Private Key)، وهو تقريباً كلمة مرور منشأة بشكل عشوائي ولا يمكن تغييرها، ومتاحة فقط لصاحب المحفظة، وتمنحه القدرة على تحريك عملاته الرقمية.
استخدامات العملات الرقمية
- الاستثمار والمضاربة
يعد الاستخدام الأوسع انتشاراً للعملات الرقمية، حيث يقوم عشرات ملايين الأشخاص حول العالم بشراء مختلف العملات الرقمية على أمل ارتفاع سعرها وبيعها مع تحقيق الأرباح، وزاد الاستثمار في العملات الرقمية خصوصاً بعد تحقيقها لعدة أسعار قياسية.
- الدفع الرقمي
تُستخدم العملات الرقمية للدفع الإلكتروني، إذ تعد أكثر أماناً من الحوالات العادية، وغير قابلة للإلغاء، كما تتيح الخصوصية التامة، بعكس أساليب الدفع الرقمية التقليدية التي ترتبط بحسابات وبطاقات بنكية تجعل من الصعب إخفاء هوية الدافع، وتتيح اليوم العديد من الشركات والعلامات التجارية دفع ثمن منتجاتها وخدماتها بالعملات الرقمية.
- الحوالات المالية
تعدّ العملات الرقمية من الأدوات المفيدة لإجراء الحوالات المالية بين الأشخاص والمؤسسات، خصوصاً بالنسبة للحوالات العابرة للحدود ذات التكاليف وفترات المعالجة المرتفعة عند استخدام الحوالات البنكية أو التيليغرافية، حيث يتم تنفيذ حوالات العملات الرقمية خلال دقائق في أسوأ الأحوال، وتعد أجورها منخفضة جداً عند استخدام بعض العملات الرقمية مقارنة بالحوالات البنكية.
- تخزين القيمة
يعتبر كثيرون العملات الرقمية، وخصوصاً بيتكوين، وسيلة فعالة لتخزين المدخرات والحفاظ على قيمتها وحمايتها من التضخم، كما هي الحال بالنسبة للذهب أو المعادن الثمينة الأخرى.
- التطبيقات اللامركزية
تستخدم العملات الرقمية لدفع أجور الخدمات والمنتجات الرقمية المقدمة عبر ما يعرف بالتطبيقات اللامركزية (DApps) وهو نوع من التطبيقات المعتمدة على البلوك تشين.
- جمع التمويل
كثيراً ما يتم استخدام طرح العملات الرقمية كوسيلة تتيح للشركات الناشئة والمشاريع جمع رأس المال من خلال إصدار العملات الرقمية والرموز المميزة الخاصة بها، الأمر الذي يتيح مرونة أكبر في جمع التمويل مع تمكين المساهمين في التمويل بالمساهمة باتخاذ القرارات بما يتناسب مع الحصص التي ساهموا بها.
- التمويل اللامركزي (DeFi)
وهو نوع من الخدمات المشابهة لخدمات المصارف والمؤسسات المالية التقليدية، مثل الإقراض والاقتراض والتداول، ويتم تقديمها عن طريق تطبيقات ومنصات بلوك تشين خاصة بها بدون الحاجة إلى وسيط بين مختلف الأطراف المشاركة في العملية.
أنواع العملات الرقمية
هناك العديد من أنواع وتصنيفات العملات الرقمية بحسب استخداماتها وغاياتها، وكثيراً ما تندرج ذات العملة الرقمية ضمن فئتين أو نوعين أو أكثر، ولكن من الناحية التقنية هناك نوعان أساسيان لا بد أن تندرج أي عملة رقمية ضمن أحدهما:
- العملات (Coins)
وهي العملات الرقمية الأصلية أو المسيّرة لشبكة البلوك تشين، ويتم إطلاقها عند إطلاق الشبكة وتشكل الشريان الرئيسي للشبكة، مثل بيتكوين وإيثريوم، وغالباً ما تحمل اسم الشبكة نفسها.
- الرموز أو الرموز المميزة (Tokens)
وهي العملات الرقمية التي تعتمد في عملها على شبكة بلوك تشين أخرى، باستخدام العقود الذكية، وتحتاج للعملة الأصلية لشبكة البلوك تشين لدفع أجور المعاملات المجراة بها، من أبرزها عملة تيذر (USDT) وبي إن بي (BNB).
على الرغم من الفارق الجوهري بين النوعين، فإنه غالباً ما يتم استخدام كلمتي Coins وTokens باللغة الإنجليزية بشكل متبادل بنفس المعنى، وفي العربية يشار للنوعين عادة باسم العملات الرقمية.
أهم العملات الرقمية
- بيتكوين (BTC)
تعد أوّل عملة رقمية ناجحة، تم تأسيسها عام 2009 على يد شخص مجهول الهوية معروف باسم ساتوشي ناكاموتو، وتهيمن معظم الأحيان على حوالي نصف القيمة السوقية الإجمالية للعملات الرقمية. يعتبرها كثيرون أكثر عملة لامركزية، أو العملة الرقمية الحقيقية الوحيدة، وتعدّ المحرك الرئيسي لأسعار العملات الرقمية التي عادةً ما تتبعها صعوداً أو هبوطاً.
- إيثريوم (ETC)
ثاني أكبر عملة لناحية القيمة السوقية، اسمها الرسمي هو “إيثر” (Ether)، ويعد مشروع إيثريوم أهم مشاريع البلوك تشين بسبب ما توفره شبكة إيثريوم من وظائف سهلت استغلال هذه التكنولوجيا لأغراض تتجاوز حدود التعاملات المالية، مثل العقود الذكية والتطبيقات اللامركزية، إضافة لدورها في إطلاق آلاف العملات الرقمية الأخرى على شكل رموز مميزة.
- تيذر (USDT)
ثالث أكبر عملة رقمية لناحية العملة السوقية، وأكبر عملة رقمية مستقرة. قيمتها مرتبطة بقيمة الدولار الأمريكي، وتعمل كرمز مميز (Token) على عدة شبكات بلوك تشين مثل إيثريوم وترون وإيوس، وتُستخدم غالباً في التداول والمعاملات المالية من قبل المستخدمين الذين لا يرغبون بالتنقل باستمرار بين العملات الرقمية والعملات النقدية.
- باينانس كوين (BNB)
العملة الخاصة بمنصة التداول المركزية باينانس (Binance)، أكبر المنصات في العالم، وكانت قد بدأت كرمز مميز على شبكة إيثريوم، ثم انتقلت إلى شبكة البلوك تشين الخاصة بها المعروفة باسم “بي إن بي تشين” (BNB Chain)، والغاية الأساسية منها عند إطلاقها كانت تزويد المستخدمين برسوم تداول حصرية وميزات أخرى على باينانس، ولكن استخداماتها اليوم اتسعت لتشمل العديد من الوظائف الأخرى مع سعة انتشارها.
- إكس آر بي (XRP)
وتعرف أيضاً باسمها القديم “ريبل”، وهي عملة رقمية تعمل على تقديم بديل لنظام الحوالات البنكي العالمي “سويفت” (SWIFT)، ويتم تشغيلها بعكس معظم العملات الرقمية من قبل مخدّمات تديرها البنوك والمؤسسات المالية التي تستخدم نظام ريبل.
عيوب العملات الرقمية
على الرغم من إمكانياتها، تواجه العملات المشفرة العديد من الانتقادات التي تشير للكثير من الجوانب السلبية المترتبة على استخدامها وحيازتها والاستثمار فيها:
- التقلب الشديد
يمكن أن تكون أسعار العملات المشفرة متقلبة للغاية، إذ إنها تعتمد بشكل كبير على المستثمرين الأفراد، والذين يتسبب اندفاعهم كثيراً في زيادة أسعارها أو هبوطها بنسب مرتفعة جداً مقارنة بغيرها من الأصول القابلة للتداول، مثل الأسهم والفوركس والسندات، ما يجعلها استثماراً محفوفاً بالمخاطر ووسيلة تبادل غير مستقرة.
- تسهيل الجريمة
تثير العملات الرقمية قلق الكثير من الحكومات والمنظمات بسبب استخدامها في تمويل وإجراء الأنشطة الإجرامية وغير القانونية وغسل الأموال، وذلك نظراً لسهولة إخفاء هوية من يستخدمونها، وزاد هذا القلق خصوصاً بعد الاستخدام الواسع لعملة بيتكوين من قبل موقع “سيلك رود” (Silkroad) لتجارة المخدرات، والذي كان يتقاضى من عملائه بعملة بيتكوين.
- نقص حماية المستهلك
على عكس الحوالات والمعاملات المالية المجراة عن طريق البنوك التقليدية، لا يمكن إلغاء معاملات العملات الرقمية أو تعديلها بعد إجرائها، ما يزيد من سهولة فقدانها بسبب الأخطاء البشرية أو عمليات الاحتيال والقرصنة.
- التأثير البيئي
تستهلك عملية التعدين الضرورية لاستمرار عمل شبكات البلوك تشين القائمة على إثبات العمل (Proof of Work) كميات هائلة من الطاقة، وتزداد الطاقة المستهلكة طرداً مع ازدياد شعبية العملات الرقمية وأسعارها، الأمر الذي جعلها عرضة لانتقادات الكثير من الحكومات والمنظمات البيئية، ودفع الكثير من الدول لتجريم تعدين العملات الرقمية.
- نطاق الاعتماد المحدود
على الرغم من أن العملات المشفرة اكتسبت شعبية واسعة في السنوات الأخيرة، إلا إن استخداماتها الممكنة ما زالت محدودة جداً مقارنة بالعملات النقدية، وعلى الرغم من بدء انتشارها كوسيلة دفع مقبولة من مختلف الشركات، إلا إن الكثير من هذه الشركات تراجعت عن ذلك لاحقاً أو لم تنفذ أصلاً التغييرات التي وعدت بها بهذا الخصوص، كما إن تقلب العملات الرقمية غير المستقرة يحول دون إمكانية الاعتماد عليها كبديل للعملات النقدية ذات القيمة الثابتة نسبياً على المدى المنظور في أغلب الحالات.