في عامي 2007 و2011 لم يدفع جيف بيزوس أي ضريبة دخل، وفي عام 2018، حين زادت ثروته بحوالي 127 مليار دولار، كانت ضريبة الدخل الفيدرالية التي دفعها حوالي 1.4 مليار دولار، أي حوالي 1.1% من الدخل الذي حققه، وذلك مقابل 10% على الأقل يدفعها في الولايات المتحدة أي شخص يجني أكثر من 11,600 دولار في السنة أو عائلة تجني أكثر من 23,200 دولار في السنة.
حالة جيف بيزوس، الذي تصدّر ترتيب أثرى رجال الأعمال في العالم عدة مرات، ليست غريبة أو استثنائية، إنما هي امتداد لظاهرة منتشرة تشمل العديد من الأثرياء في العالم، وهي التهرّب الضريبي. وعلى الرغم من سلبية المصطلح، إلا إنه يشير غالباً للأساليب القانونية التي يتبعها الأثرياء للتهرب من دفع ضرائبهم، خصوصاً وأن معظم الدول تتغير فيها نسبة الضريبة كنسبة مئوية وفقاً لمستوى الدخل، وترتفع بارتفاعه، وقد تصل إلى نسب تبلغ أكثر من 60% كما هي الحال في كوت ديفوار والبرتغال.
مع تطور القوانين الضريبية، تطوّرت الأساليب المتبعة للتهرب من الضرائب، مع استخدام معظم الأشخاص شديدي الثراء لعدة أساليب في وقتٍ واحد لتفادي دفع الضرائب في مختلف الدوائر القضائية التي يجرون أعمالهم فيها.
الشركات الوهمية والجنان الضريبية
لا يوجد إجماع على ما يمكن اعتباره جنة ضريبية أو ملاذا ضريبياً، ولكنها بشكل عام الدول أو الولايات أو المناطق ذات الحكم الذاتي التي توفّر قوانينها ميزات تغري الأغنياء بنقل ثرواتهم إليها بهدف التهرب من دفع الضرائب في بلادهم.
من الميزات التي تقدمها الجنان الضريبية الضرائب المنخفضة أو المعدومة، والسرية المصرفية التي تتيح للبنوك إخفاء حسابات عملائها عن الجهات المختصة في مختلف الدول.
تتم الاستفادة من هذه الجنان الضريبية مثلاً عن طريق تأسيس شركات وهمية تُجرى الأعمال باسمها دون الكشف عن اسم مالكيها، وبذلك لا يمكن إثبات أن عائدات أعمال هذه الشركات تعود للشخص الذي يحاول التهرب من دفع الضرائب، وفي الوقت نفسه لا تكلف هذه الشركات الوهمية شيئاً سوى تكاليف التأسيس وخدمات الوكالات المسؤولة عن تأسيسها، كونها لا تكون مضطرة لدفع الضرائب أساساً.
كما يقوم الكثير من الأثرياء، خصوصاً أصحاب الدخل غير الشرعي، بنقل أموالهم إلى بنوك في الدول التي تتمتع قوانينها بحماية السرية المصرفية، وعلى رأسها مثلاً سويسرا، بحيث لا يمكن إثبات امتلاكهم لهذه الأموال.
من الصعب معرفة الرقم الدقيق لحجم الأموال المخفية في الجنان الضريبية بسبب السرية التي تضمن إخفاءها، ولكنها تكلف الحكومات سنوياً ما بين 500 و600 دولار من الضرائب غير المدفوعة بحسب تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، وتبلغ الأموال المخفية في الجنان الضريبية بحسب تقديرات شبكة العدالة الضريبية ما بين 21 و32 تريليون دولار، أي ما يقارب حجم الاقتصاد الأمريكي.
كما يمكن لبعض الأثرياء حتى تغيير إقامتهم مؤقتاً لمكانٍ يفرض ضرائب أقل أو معدومة، كما فعل جيف بيزوس حين انتقل إلى ولاية فلوريدا قبل بيعه لكمية من الأسهم بقيمة ملياري دولار، وذلك لأن ولاية واشنطن التي كان يقيم فيها فرضت منذ عام 2022 ضريبة بقيمة 7% على مبيعات الأسهم والسندات التي تزيد قيمتها عن 250 ألف دولار، وبهذا وفّر على نفسه دفع ضرائب تبلغ حوالي 140 مليون دولار.
شراء، اقتراض، موت… كرر العملية
حين نقرأ كل يوم أخباراً عن زيادة ثروة رجال الأعمال بالمليارات، فإن هذه الزيادة ليست نقدية عملياً، إنما هي غالباً زيادة في قيمة الأسهم أو الأصول التي يملكونها، ومن حيث المبدأ لا تخضع هذه الزيادات للضرائب ما لم يتم بيع الأسهم والأصول، ليتم احتسابها أرباحاً رأسمالية، أي الأرباح الناجمة عن بيع أصول بسعر أعلى من سعر شرائها.
لتجاوز هذه العقبة، يلجأ الأغنياء للقروض لتمويل نفقاتهم واستثماراتهم الشخصية، حيث يستخدمون الأصول التي يملكونها كضمانات للحصول على القروض، التي لا تخضع للضرائب غالباً، وعند استحقاق هذه القروض، يلجؤون لأخذ قروض أخرى بضمانة الأصول أيضاً، وهلم جرا.
وتعرف هذه العملية باسم “اشترِ، اقترض، مُت” (Buy, borrow, die)، في إشارة لإمكانية استمرارها إلى ما نهاية، وتتألف من ثلاث خطوات:
- الشراء: وهو تحويل الثروة إلى أصول غير نقدية مرتفعة القيمة عبر شراء الأسهم والعقارات والأعمال الفنية وغيرها.
- الاقتراض: وذلك باستخدام الأصول التي تم شراؤها في الخطوة الماضية كضمانات لقروض مرتفعة، وبذلك فإن ارتفاع قيمة هذه الأصول لا يكون خاضعاً للضريبة كونها لم تُبع ولم يقم الشخص نظرياً بتحصيل الأرباح، ومن ناحية أخرى فإن القروض نفسها لا تخضع للضرائب غالباً كما هي حال الدخل.
- الموت: لحماية الورثة أيضاً من دفع الضرائب على الميراث، تترك لهم عقارات ليقوموا باستخدامها في تسديد القروض عند وفاة الشخص، وهكذا أولاً لا تحتسب قيمتها ضمن الميراث الذي حصلوا عليه، وبالتالي لا يدفعون ضرائب عليها، وثانياً تحميهم من تسييل الأصول الأخرى التي يملكونها لتسديد القروض، وبالتالي القدرة على استخدامها لبدء عملية “شراء/اقتراض/موت” من جديد.
التبرعات والأعمال الخيرية
يتم استخدام الأعمال الخيرية للتهرب من الضرائب بطريقتين، الأولى وهي الأبسط عبر إجراء تبرّعات قبل نهاية السنة المالية لتحقيق موازنة تسمح بالنزول إلى فئة أقل في التكليف الضريبي، وبالتالي دفع نسبة أقل على الدخل.
مثلاً إن كانت الضريبة على الدخل البالغ 100 مليون أو أكثر تبلغ 40%، والدخل الذي يتراوح بين 70 و100 مليون 35%، وتم تحقيق دخل يبلغ 103 ملايين، يتم التبرع في نهاية العام المالي بمبلغ ثلاثة ملايين وكسور، وبذلك تنخفض الضريبة من 41.2 مليون إلى حوالي 35 مليون، وذلك خصوصاً في حالات الشركات التي يمكنها إدراج تبرعاتها وأعمالها الخيرية تحت بند النفقات. وكثيراً ما يتم هذا النوع من التبرعات على شكل أسهم بدلاً من تقديم تبرعات نقدية، وبذلك يتفادى المتبرع الضرائب المترتبة على أرباحه في حال قام ببيع الأسهم للتبرع بعائداتها إلى الجمعيات الخيرية.
أما الطريقة الثانية وهي الأكثر تعقيداً فتتم عبر إنشاء جمعيات خيرية يكون الشخص أو العائلة التي أنشأتها تتمتع بسلطة “الأمناء” فيها، وبالتالي السيطرة على أصولها، ويتم استخدام هذه الجمعيات أولاً عبر تقديم التبرعات لها للاستفادة من الإعفاءات الضريبية التي توفرها الكثير من الحكومات مقابل التبرعات، وذلك بدون خسارة التبرعات أو الهيمنة عليها، وثانياً عبر نقل ملكية مختلف الأصول إليها لتفادي دفع الضرائب على الثروات، خصوصاً لكون الجمعيات الخيرية غالباً ما تخضع لقوانين ضريبية أكثر تراخياً في معظم الدول.
في الوقت نفسه فإنه يُسمح للمؤسسات الخيرية بالاستثمار في الأسهم في الكثير من الحالات، ما يجعل الكثير من هذه المؤسسات الخيرية الصورية تعيد استثمار التبرعات في أسهم الشركة نفسها وعدم التأثير سلباً على أدائها، أو على الأقل التعويض عن الأثر السلبي على أداء الأسهم الناجم عن انخفاض الأرباح أو العائدات الناجم عن التبرعات.
مخازن الأعمال الفنية
حين نفكر باللوحات الفنية، فإننا غالباً ما نتخيلها معلقة على جدران المتاحف والفنادق والبيوت الفاخرة، ولكن هناك عدد هائل من الأعمال الفنية عالية القيمة مدفونة في مستودعات مشددة الحراسة، خصوصاً في ما يعرف باسم الموانئ الحرة (Freeports)، وهي مناطق حرة خاصة بالمنافذ الحدودية، كالمطارات والموانئ، يمكن تخزين البضائع فيها دون دفع ضريبة استيراد أو تصدير عليها.
يتم استخدام هذه المناطق لتخزين أعمال فنية يشتريها أصحابها لتخزين ثرواتهم على شكل قطع فنية صغيرة الحجم عالية القيمة، وتعد سويسرا من أشهر الوجهات لهذا النوع من التخزين، حيث تشير تقديرات عدة لوجود أعمال فنية فيها مخزّنة بهذه الطريقة تقدر قيمتها بأكثر من 100 مليار دولار في ميناء حر واحد، هو ميناء جنيف.
تبلغ مساحة ميناء جنيف الحر (Geneva Freeport) 11 ألف متر مربع، ويحتوي على 1.2 مليون عمل فني وفقاً لبعض التقديرات، ووفقاً لتقرير من صحيفة نيويورك تايمز فإنها تضم أكثر من 1000 عمل لبيكاسو، إضافة لأعمال دافينشي وفان غوخ وكليمت ووارهول.
إضافة إلى كونها مخازن قيمة شديدة التركيز، فإن هذه الأعمال الفنية تتيح ميّزة للأثرياء تتمثل في مكان وجودها، وذلك كون مبيعاتها معفاة من الضرائب، ما يعني أنها تتيح لأصحابها تحويلها لسيولة نقدية بدون تحمل أعباء ضريبية تترتب على الأرباح التي يحققونها من بيعها.
هناك الكثير من الأساليب الأخرى التي يتبعها الأغنياء للتهرب من دفع الضرائب أو دفع أقل قدر ممكنٍ منها، وغالباً ما يستغلون اختلاف الواجبات الضريبية بين منطقة وأخرى واتفاقيات التجارة الحرة، وعلى الرغم من الآثار السلبية الشديدة لهذا التهرب على الكثير من اقتصادات العالم، إلا أساليب التهرب الضريبي في غالبيتها العظمى قانونية تماماً، ولذلك نادراً ما تؤدي فضائح الجنان الضريبية، مثل وثائق بنما ووثائق باندورا، إلى أي ملاحقات قضائية، وتقتصر أضرارها على أزمات إعلامية لا أكثر.